الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
وَقَالَ مَالِكٌ الْعَرِيَّةُ أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ النَّخْلَةَ ثُمَّ يَتَأَذَّى بِدُخُولِهِ عَلَيْهِ فَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِتَمْرٍ وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ الْعَرِيَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْكَيْلِ مِنْ التَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ لَا يَكُونُ بِالْجِزَافِ وَمِمَّا يُقَوِّيهِ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ بِالْأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَتْ الْعَرَايَا أَنْ يُعْرِيَ الرَّجُلُ فِي مَالِهِ النَّخْلَةَ وَالنَّخْلَتَيْنِ وَقَالَ يَزِيدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ الْعَرَايَا نَخْلٌ كَانَتْ تُوهَبُ لِلْمَسَاكِينِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَنْتَظِرُوا بِهَا رُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهَا بِمَا شَاءُوا مِنْ التَّمْرِ الشرح: قوله: (باب تفسير العرايا) هي جمع عرية وهي عطية ثمر النخل دون الرقبة، كان العرب في الجدب يتطوع أهل النخل بذلك على من لا ثمر له كما يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون الرقبة، قاله حسان بن ثابت فيما ذكر ابن التين - وقال غيره هي لسويد بن الصلت: - ليست بسنهاء ولا رحبية ولكن عرايا في السنين الجوائح ومعنى " سنهاء " أن تحمل سنة دون سنة و " الرحبية " التي تدعم حين تميل من الضعف، والعرية فعيلة بمعنى مفعولة أو فاعلة، يقال: عرى النخل بفتح العين والراء بالتعدية يعروها إذا أفردها عن غيرها، بأن أعطاها لآخر على سبيل المنحة ليأكل ثمرها وتبقى رقبتها لمعطيها، ويقال عريت النخل بفتح العين وكسر الراء تعرى على أنه قاصر فكأنها عريت عن حكم أخواتها واستثبتت بالعطية، واختلف في المراد بها شرعا. قوله: (وقال مالك: العرية أن يعرى الرجل الرجل النخلة) أي يهبها له أو يهب له ثمرها (ثم يتأذى بدخوله عليه فرخص له) أي للواهب (أن يشتريها) أي يشتري رطبها (منه) أي من الموهوبة له (بتمر) أي يابس، وهذا التعليق وصله ابن عبد البر من طريق ابن وهب عن مالك، وروى الطحاوي من طريق ابن نافع عن مالك أن العرية النخلة للرجل في حائط غيره، وكانت العادة أنهم يخرجون بأهليهم في وقت الثمار إلى البساتين فيكره صاحب النخل الكثير دخول الآخر عليه فيقول له: أنا أعطيك بخرص نخلتك تمرا فرخص له في ذلك، ومن شرط العرية عند مالك أنها لا تكون بهذه المعاملة إلا مع المعرى خاصة لما يدخل على المالك من الضرر بدخول حائطه، أو ليدفع الضرر عن الآخر بقيام صاحب النخل بالسقي والكلف. ومن شرطها أن يكون البيع بعد بدو الصلاح. وأن يكون بتمر مؤجل. وخالفه الشافعي في الشرط الأخير فقال: يشترط التقابض. قوله: (وقال ابن إدريس: العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد، ولا تكون بالجزاف) ابن إدريس هذا رجح ابن التين أنه عبد الله الأودي الكوفي، وتردد ابن بطال ثم السبكي في " شرح المهذب " وجزم المزي في " التهذيب " بأنه الشافعي، والذي في " الأم للشافعي " وذكره عنه البيهقي في " المعرفة " من طريق الربيع عنه قال: العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة فأكتر بخرصه من التمر، بأن يخرص الرطب ثم يقدركم ينقص إذا يبس ثم يشتري بخرصه تمرا، فإن تفرقا قبل أن يتقابضا فسد البيع انتهى. وهذا وإن غاير ما علقه البخاري لفظا فهو يوافقه في المعنى لأن محصلهما أن لا يكون جزافا ولا نسيئة، وقد جاء عن الشافعي بلفظ آخر قرأته بخط أبي على الصدفي بهامش نسخته قال: لفظ الشافعي ولا تبتاع العرية بالتمر إلا أن تخرص العرية كما يخرص المعشر فيقال: فيها الآن كذا وكذا من الرطب، فإذا يبس كان كذا وكذا، فيدفع من التمر بكيله خرصا ويقبض النخلة بثمرها قبل أن يتفرقا، فإن تفرقا قبل قبضها فسد. قوله: (ومما يقويه) أي قول الشافعي بأن لا يكون جزافا قول سهل بن أبي حثمة " بالأوسق الموسقة " وقول سهل هذا أخرجه الطبري من طريق الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن سهل موقوفا ولفظه " لا يباع الثمر في رءوس النخل بالأوساق الموسقة إلا أوسقا ثلاثة أو أربعة أو خمسة يأكلها الناس " وما ذكره المصنف عن الشافعي هو شرط العرية عند أصحابه، وضابط العرية عندهم أنها بيع رطب في نخل يكون خرصه إذا صار تمرا أقل من خمسة أوسق بنظيره في الكيل من التمر مع التقابض في المجلس. وقال ابن التين: احتجاج البخاري لابن إدريس بقول سهل بالأوسق الموسقة لا دليل فيه، لأنها لا تكون مؤجلة، وإنما يشهد له قول سفيان بن حسين يعني الآتي. قلت: لعله أراد أن مجموع ما أورده بعد قول ابن إدريس يقوى قول ابن إدريس. ثم إن صور العرية كثيرة: منها أن يقول الرجل لصاحب حائط: بعني ثمر نخلات بأعيانها بخرصها من التمر. فيخرصها ويبيعه ويقبض منه التمر ويسلم إليه النخلات بالتخلية فينتفع برطبها. ومنها أن يهب صاحب الحائط لرجل نخلات أو ثمر. نخلات معلومة من حائطه، ثم يتضرر بدخوله عليه فيخرصها ويشتري منه رطبها بقدر خرصه بتمر يعجله له. ومنها أن يهبه إياها فيتضرر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمرا ولا يحب أكلها رطبا لاحتياجه إلى التمر فيبيع ذلك الرطب بخرصه من الواهب أو من غيره بتمر يأخذه معجلا. ومنها أن يبيع الرجل تمر حائطه بعد بدو صلاحه ويستثنى منه نخلات معلومة يبقيها لنفسه أو لعياله وهي التي عف له عن خرصها في الصدقة، وسميت عرايا لأنها أعريت من أن تخرص في الصدقة فرخص لأهل الحاجة الذين لا نقد لهم وعندهم فضول من تمر قوتهم أن يبتاعوا بذلك التمر من رطب تلك النخلات بخرصها. ومما يطلق عليه اسم عرية أن يعرى رجلا تمر نخلات يبيح له أكلها والتصرف فيها، وهذه هبة مخصوصة. ومنها أن يعرى عامل الصدقة لصاحب الحائط من حائطه نخلات معلومة لا يخرصها في الصدقة. وهاتان الصورتان من العرايا لا يبيع فيها. وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور، وقصر مالك العرية في البيع على الصورة الثانية، وقصرها أبو عبيد على الصورة الأخيرة من صور البيع وزاد أنه رخص لهم أن يأكلوا الرطب ولا يشتروه لتجارة ولا ادخار. ومنع أبو حنيفة صور البيع كلها وقصر العرية على الهبة، وهو أن يعرى الرجل تمر نحلة من نخله ولا يسلم ذلك له ثم يبدو له في ارتجاع تلك الهبة فرخص له أن يحتبس ذلك ويعطيه بقدر ما وهبه له من الرطب بخرصه تمرا، وحمله على ذلك أخذه بعموم النهي عن بيع الثمر بالتمر، وتعقب بالتصريح باستثناء العرايا في حديث ابن عمر كما تقدم وفي حديث غيره. وحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان من أصحابهم أن معنى الرخصة أن الذي وهبت له العرية لم يملكها لأن الهبة لا تملك إلا بالقبض، فلما جاز له أن يعطي بدلها تمرا وهو لم يملك المبدل منه حتى يستحق البدل كان ذلك مستثنى وكان رخصة. وقال الطحاوي: بل معنى الرخصة فيه أن المرء مأمور بإمضاء ما وعد به ويعطي بدله ولو لم يكن واجبا عليه، فلما أذن له أن يحبس ما وعد به ويعطي بدله ولا يكون في حكم من أخلف وعده ظهر بذلك معنى الرخصة واحتج لمذهبه بأشياء تدل على أن العرية العطية. ولا حجة في شيء منها لأنه لا يلزم من كون أصل العرية العطية أن لا تطلق العرية شرعا على صور أخرى، قال ابن المنذر: الذي رخص في العرية هو الذي نهى عن بيع الثمر بالتمر في لفظ واحد من رواية جماعة من الصحابة، قال: ونظير ذلك الإذن في السلم مع قوله صلى الله عليه وسلم "لا تبع ما ليس عندك " قال: فمن أجاز المسلم مع كونه مستثنى من بيع ما ليس عندك ومنع العرية مع كونها مستثناة من بيع الثمر بالتمر فقد تناقض. وأما حملهم الرخصة على الهبة فبعيد مع تصريح الحديث بالبيع واستثناء العرايا منه، فلو كان المراد الهبة لما استثنيت العرية من البيع، ولأنه عبر بالرخصة والرخصة لا تكون إلا بعد ممنوع والمنع إنما كان في البيع لا الهبة وبأن الرخصة قيدت بخمسة أوسق أو ما دونها والهبة لا تتقيد لأنهم لم يفرقوا في الرجوع في الهبة بين ذي رحم وغيره، وبأنه لو كان الرجوع جائزا فليس إعطاؤه بالتمر بدل الرطب بل هو تجديد هبة أخرى فإن الرجوع لا يجوز فلا يصح تأويلهم. قوله: (وقال ابن إسحاق في حديثه عن نافع عن ابن عمر " كانت العرايا أن يعرى الرجل الرجل في ماله النخلة والنخلتين ") أما حديث ابن إسحاق عن نافع فوصله الترمذي دون تفسير ابن إسحاق، وأما تفسيره فوصله أبو داود عنه بلفظ " النخلات " وزاد فيه " فيشق عليه فيبيعها بمثل خرصها " وهذا قريب من الصورة التي قصر مالك العرية عليها. قوله: (وقال يزيد) يعني ابن هارون (عن سفيان بن حسين: العرايا نخل كانت توهب للمساكين فلا يستطيعون أن ينتظروا بها فرخص لهم أن يبيعوها بما شاءوا من التمر) وهذا وصله الإمام أحمد في حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه عن زيد بن ثابت مرفوعا في العرايا قال سفيان بن حسين فذكره، وهذه إحدى الصور المتقدمة، واحتج لمالك في قصر العرية على ما ذكره بحديث سهل بن أبي حثمة المذكور في الباب الذي قبله بلفظ " يأكلها أهلها رطبا " فتمسك بقوله " أهلها " والظاهر أنه الذي أعراها ويحتمل أن يراد بالأهل من تصير إليه بالشراء، والأحسن في الجواب أن حديث سهل دل على صورة من صور العرية وليس فيه التعرض لكون غيرها ليس عرية وحكى عن الشافعي تقييدها بالمساكين على ما في حديث سفيان بن حسين وهو اختيار المزني، وأنكر الشيخ أبو حامد نقله عن الشافعي، ولعل مستند من أثبته ما ذكره الشافعي في " اختلاف الحديث " عن محمود بن لبيد قال " قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وأصحابه شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يحضر وليس عندهم ذهب ولا فضة يشترون بها منه وعندهم فضل تمر من قوت سنتهم، فرخص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطبا " قال الشافعي: وحديث سفيان يدل لهذا، فإن قوله " يأكله أهلها رطبا " يشعر بأن مشتري العرية يشتريها ليأكلها وأنه ليس له رطب يأكله غيرها، ولو كان المرخص له في ذلك صاحب الحائط يعني كما قال مالك لكان لصاحب الحائط في حائطه من الرطب ما يأكله غيرها ولم يفتقر إلى بيع العرية. وقال ابن المنذر: هذا الكلام لا أعرف أحدا ذكره غير الشافعي. وقال السبكي: هذا الحديث لم يذكر الشافعي إسناده، وكل من ذكره إنما حكاه عن الشافعي، ولم يجد البيهقي في " المعرفة " له إسنادا، قال: ولعل الشافعي أخذه من السير، يعني سير الواقدي، قال: وعلى تقدير صحته فليس فيه حجة للتقييد بالفقير لأنه لم يقع في كلام الشارع وإنما ذكره في القصة فيحتمل أن تكون الرخصة وقعت لأجل الحاجة المذكورة، ويحتمل أن يكون للسؤال فلا يتم الاستدلال مع إطلاق الأحاديث المنصوصة من الشارع. وقد اعتبر هذا القيد الحنابلة مضموما إلى ما اعتبره مالك، فعندهم لا تجوز العرية إلا لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو لحاجة المشتري إلى الرطب، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْعَرَايَا نَخَلَاتٌ مَعْلُومَاتٌ تَأْتِيهَا فَتَشْتَرِيهَا الشرح: قوله: (حدثنا محمد) كذا للأكثر غير منسوب، ووقع في رواية أبي ذر هو ابن مقاتل، وعبد الله هو ابن المبارك. قوله: (قال موسى بن عقبة) أي بالإسناد المذكور إليه. قوله: (والعرايا نخلات معلومات تأتيها فتشتريها) أي تشتري ثمرتها بتمر معلوم، وكأنه اختصره للعلم به ولم أجده في شيء من الطرق عنه إلا هكذا، ولعله أراد أن يبين أنها مشتقة من عروت إذا أتيت وترددت إليه لا من العرى بمعنى التجرد قاله الكرماني، وقد تقدم قول يحيى بن سعيد: العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا، وفي لفظ عنه: أن العرية النخلة تجعل للقوم فيبيعونها بخرصها تمرا. وقال القرطبي: كأن الشافعي اعتمد في تفسير العرية على قول يحيى بن سعيد، وليس يحيى صحابيا حتى يعتمد عليه مع معارضة رأي غيره له. ثم قال: وتفسير يحيى مرجوح بأنه عين المزابنة المنهي عنها في قصة لا ترهق إليها حاجة أكيدة ولا تندفع بها مفسدة، فان المشتري لها بالتمر متمكن من بيع ثمره بعين وشرائه بالعين ما يريد من الرطب، فإن قال يتعذر هذا، قيل له فأجز بيع الرطب بالتمر ولو لم يكن الرطب على النخل، وهو لا يقول بذلك. انتهى. والشافعي أقعد باتباع أحاديث هذا الباب من غيره، فإنها ناطقة باستثناء العرايا من بيع المزابنة، وأما إلزامه الأخير فليس بلازم لأنها رخصة وقعت مقيدة بقيد فيتبع القيد وهو كون الرطب على رءوس النخل، مع أن كثيرا من الشافعية ذهبوا إلى إلحاق الرطب بعد القطع بالرطب على رءوس النخل بالمعنى كما تقدم، والله أعلم. ما ورد من تفسير العرايا في الأحاديث لا يخالفه الشافعي، فقد روى أبو داود من طريق عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد وهو أخو يحيى ابن سعيد قال: العرية الرجل يعرى الرجل النخلة، أو الرجل يستثنى من ماله النخلة يأكلها رطبا فيبيعها تمرا. وقال أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه " حدثنا وكيع قال سمعنا في تفسير العرية أنها النخلة يرثها الرجل أو يشتريها في بستان الرجل " وإنما يتجه الاعتراض على من تمسك بصورة من الصور الواردة في تفسير العرية ومنع غيرها، وأما من عمل بها كلها ونظمها في ضابط يجمعها فلا اعتراض عليه، والله أعلم. *3* وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ إِنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ أَصَابَهُ مُرَاضٌ أَصَابَهُ قُشَامٌ عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ فَإِمَّا لَا فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنَ الْأَصْفَرُ مِنْ الْأَحْمَرِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ عَنْ زَكَرِيَّاءَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ سَهْلٍ عَنْ زَيْدٍ الشرح: قوله: (باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها) يبدو بغير همز أي يظهر، والثمار بالمثلثة جمع ثمرة بالتحريك وهي أعم من الرطب وغيره، ولم يجزم بحكم في المسألة لقوة الخلاف فيها، وقد اختلف في ذلك على أقوال: فقيل يبطل مطلقا وهو قول ابن أبي ليلى والثوري، ووهم من نقل الإجماع على البطلان. وقيل يجوز مطلقا ولو شرط التبقية وهو قول يزيد بن أبي حبيب، ووهم من نقل الإجماع فيه أيضا. وقيل إن شرط القطع لم يبطل وإلا بطل وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور ورواية عن مالك. وقيل يصح إن لم يشترط التبقية والنهي فيه محمول على بيع الثمار قبل أن توجد أصلا وهو قول أكثر الحنفية. وقيل هو على ظاهره لكن النهي فيه للتنزيه، وحديث زيد بن ثابت المصدر به الباب يدل للأخير، وقد يحمل على الثاني. وذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث: الأول حديث زيد بن ثابت. قوله: (وقال الليث عن أبي الزناد الخ) لم أره موصولا من طريق الليث، وقد رواه سعيد بن منصور عن أبي الزناد عن أبيه نحو حديث الليث ولكن بالإسناد الثاني دون الأول، وأخرجه أبو داود والطحاوي من طريق يونس بن يزيد عن أبي الزناد بالإسناد الأول دون الثاني، وأخرجه البيهقي من طريق يونس بالإسنادين معا. قوله: (من بني حارثة) بالمهملة والمثلثة. وفي هذا الإسناد رواية تابعي عن مثله عن صحابي عن مثله، والأربعة مدنيون. قوله: (فإذا جذ الناس) بالجيم والذال المعجمة الثقيلة أي قطعوا ثمر النخل، أي استحق الثمر القطع. وفي رواية أبي ذر عن المستملى والسرخسي " أجذ " بزيادة ألف ومثله النسفي، قال ابن التين معناه دخلوا في زمن الجذاذ كأظلم إذا دخل في الظلام، والجذاذ صرام النخل وهو قطع ثمرتها وأخذها من الشجر. قوله: (وحضر تقاضيهم) بالضاد المعجمة. قوله: (قال المبتاع) أي المشتري. قوله: (الدمان) بفتح المهملة وتخفيف الميم ضبطه أبو عبيد، وضبطه الخطابي بضم أوله، قال عياض هما صحيحان والضم رواية القابسي والفتح رواية السرخسي، قال: ورواها بعضهم بالكسر. وذكره أبو عبيد عن أبي الزناد بلفظ الأدمان زاد في أوله الألف وفتحها وفتح الدال، وفسره أبو عبيد بأنه فساد الطلع وتعفنه وسواده. وقال الأصمعي الدمال باللام: العفن. وقال القزاز الدمان: فساد النخل قبل إدراكه، وإنما يقع ذلك في الطلع يخرج قلب النخلة أسود معفونا. ووقع في رواية يونس الدمار بالراء بدل النون وهو تصحيف كما قاله عياض، ووجهه غيره بأنه أراد الهلاك كأنه قرأه بفتح أوله. قوله: (أصابه مرض) في رواية الكشميهني والنسفي " مراض " بكسر أوله للأكثر. وقال الخطابي بضمه وهو اسم لجميع الأمراض بوزن الصداع والتعال، وهو داء يقع في الثمرة فتهلك يقال أمرض إذا وقع في ماله عاهة، وزاد الطحاوي في رواية " أصابه عفن " وهو بالمهملة والفاء المفتوحتين. قوله: (قشام) بضم القاف بعدها معجمة خفيفة زاد الطحاوي في روايته " والقشام شيء يصيبه حتى لا يرطب " وقال الأصمعي: هو أن ينتقض ثمر النخل قبل أن يصير بلحا، وقيل هو أكال يقع في الثمر. قوله: (عاهات) جمع عاهة وهو بدل من المذكورات أولا، والعاهة العيب والآفة، والمراد بها هنا ما يصيب الثمر مما ذكر. قوله: (فإما لا) أصلها إن الشرطية وما زائدة فأدغمت، قال ابن الأنباري: هي مثل قوله: قوله: (كالمشورة) بضم المعجمة وسكون الواو، وسكون المعجمة وفتح الواو لغتان، فعلى الأول فهي فعولة وعلى الثاني مفعلة. وزعم الحريري أن الإسكان من لحن العامة، وليس كذلك فقد أثبتها " الجامع " و " الصحاح " و " المحكم " وغيرهم. قوله: (وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت) القائل هو أبو الزناد. قوله: (حتى تطلع الثريا) أي مع الفجر، وقد روى أبو داود من طريق عطاء عن أبي هريرة مرفوعا قال " إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهة عن كل بلد " وفي رواية أبى حنيفة عن عطاء " رفعت العاهة عن الثمار " والنجم هو الثريا، وطلوعها صباحا يقع في أول فصل الصيف وذلك عند اشتداد الحر في بلاد الحجاز وابتداء نضج الثمار؛ فالمعتبر في الحقيقة النضج وطلوع النجم علامة له، وقد بينه في الحديث بقوله " ويتبين الأصفر من الأحمر " وروى أحمد من طريق عثمان بن عبد الله بن سراقة " سألت ابن عمر عن بيع الثمار فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة. قلت ومتى ذلك؟ قال: حتى تطلع الثريا " ووقع في رواية ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة عن أبيه " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع خصومة فقال: ما هذا "؟ فذكر الحديث، فأفاد مع ذكر السبب وقت صدور النهي المذكور. قوله: (ورواه علي بن بحر) هو القطان الرازي أحد شيوخ البخاري، وحكام هو ابن سلم بفتح المهملة وسكون اللام رازي أيضا، وعنبسة بسكون النون وفتح الموحدة بعدها مهملة هو ابن سعيد بن الضريس بالضاد المعجمة مصغر ضرس كوفي ولي قضاء الري فعرف بالرازي وقد روى أبو داود حديث الباب من طريق عنبسة بن خالد عن يونس بن يزيد وهو غير هذا، وقد خفي هذا على أبي علي الصدفي فرأيت بخطه في هامش نسخته ما نصه: حديث عنبسة الذي أخرجه البخاري عن حكام أخرجه الباجي من طريق أبي داود عن أحمد بن صالح عن عنبسة. انتهى. فظن أنهما واحد وليس كذلك بل هما اثنان، وشيخهما مختلف، وليس لعنبسة بن سعيد هذا في البخاري سوى هذا الموضع الموقوف، بخلاف عنبسة بن خالد. وكذا زكريا شيخه وهو ابن خالد الرازي ولا أعرف عنه راويا غير عنبسة بن سعيد المذكور. وقوله "عن سهل " أي ابن أبي حثمة المتقدم ذكره، وزيد هو ابن ثابت، والغرض أن الطريق الأولى عن أبي الزناد ليست غريبة فردة. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ الشرح: حديث نافع عن ابن عمر بلفظ " نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها " نهى البائع والمشتري. أما البائع فلئلا يأكل مال أخيه بالباطل، وأما المشتري فلئلا يضيع ماله ويساعد البائع على الباطل. وفيه أيضا قطع النزاع والتخاصم، ومقتضاه جواز بيعها بعد بدو الصلاح مطلقا سواء اشترط الإبقاء أم لم يشترط، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، وقد جعل النهي ممتدا إلى غاية بدو الصلاح، والمعنى فيه أن تؤمن فيها الغاية وتغلب السلامة فيثق المشتري بحصولها، بخلاف ما قبل بدو الصلاح فإنه بصدد الغرر. وقد أخرج مسلم الحديث من طريق أيوب عن نافع فزاد في الحديث " حتى يأمن العاهة " وفي رواية يحيى ابن سعيد عن نافع بلفظ " وتذهب عنه الآفة ببدو صلاحه حمرته وصفرته " وهذا التفسير من قول ابن عمر بينه مسلم في روايته من طريق شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر " فقيل لابن عمر ما صلاحه؟ قال: تذهب عاهته " وإلى الفرق بين ما قبل ظهور الصلاح وبعده ذهب الجمهور، وعن أبي حنيفة إنما يصح بيعها في هذه الحالة حيث لا يشترط الإبقاء، فإن شرطه لم يصح البيع. وحكى النووي في " شرح مسلم " عنه أنه أوجب شرط القطع في هذه الصورة، وتعقب بأن الذي صرح به أصحاب أبي حنيفة أنه صحح البيع حالة الإطلاق قبل بدو صلاح وبعده، وأبطله بشرط الإبقاء قبله وبعده، وأهل مذهبه أعرف به من غيرهم. واختلف السلف في قوله " حتى يبدو صلاحها " هل المراد به جنس الثمار حتى لو بدا الصلاح في بستان من البلد مثلا جاز بيع ثمرة جميع البساتين وإن لم يبدا الصلاح فيها، أو لا بد من بدو الصلاح في كل بستان على حدة، أو لا بد من بدو الصلاح في كل جنس على حدة أو في كل شجرة على حدة؟ على أقوال: والأول قول الليث، وهو عند المالكية بشرط أن يكون الصلاح متلاحقا. والثاني قول أحمد، وعنه رواية كالرابع، والثالث قول الشافعية. ويمكن أن يؤخذ ذلك من التعبير ببدو الصلاح لأنه دال على الاكتفاء بمسمى الإزهار من غير اشتراط تكامله فيؤخذ منه الاكتفاء بزهو بعض الثمرة وبزهو الشجرة مع حصول المعنى وهو الأمن من العاهة، ولولا حصول المعنى لكان تسميتها مزهية بأزهاء بعضها قد لا يكتفي به لكونه على خلاف الحقيقة، وأيضا فلو قيل بإزهاء الجميع لأدى إلى فساد الحائط أو أكثره، وقد من الله تعالى بكون الثمار لا تطيب دفعة واحدة ليطول زمن التفكه بها. الحديث: حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُبَاعَ ثَمَرَةُ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ يَعْنِي حَتَّى تَحْمَرَّ الشرح: قوله: (أخبرنا عبد الله) هو ابن المبارك. قوله: (عن أنس) سيأتي في الباب الذي يليه من وجه آخر عن حميد قال " حدثنا أنس". قوله: (نهى أن تباع ثمرة النخل) كذا وقع التقييد بالنخل في هذه الطريق، وأطلق في غيرها، ولا فرق في الحكم بين النخل وغيره وإنما ذكر النخل لكونه كان الغالب عندهم. قوله: (قال أبو عبد الله: يعني حتى تحمر) كذا وقع هنا، وأبو عبد الله هو المصنف. ورواية الإسماعيلي تشعر بأن قائل ذلك هو عبد الله بن المبارك، فلعل أداة الكنية في روايتنا مزيدة وسيأتي هذا التفسير في الباب الذي يليه في نفس الحديث، ونذكر فيه من حكى أنه مدرج. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَلِيمِ بْنِ حَيَّانَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَا قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ حَتَّى تُشَقِّحَ فَقِيلَ وَمَا تُشَقِّحُ قَالَ تَحْمَارُّ وَتَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا الشرح: قوله: (حتى تشقح) بضم أوله من الرباعي يقال أشقح ثمر النخل إشقاحا إذا احمر أو اصفر، والاسم الشقح بضم المعجمة وسكون القاف بعدها مهملة، وذكره مسلم من وجه آخر عن جابر بلفظ " حتى تشقه " فأبدل من الحاء هاء لقربها منها. قوله: (فقيل وما تشقح) ؟ هذا التفسير من قول سعيد بن ميناء راوي الحديث، بين ذلك أحمد في روايته لهذا الحديث عن بهز بن أسد عن سليم بن حيان أنه هو الذي سأل سعيد بن ميناء عن ذلك فأجابه بذلك، وكذلك أخرجه مسلم من طريق بهز، وأخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سليم بن حبان فقال في روايته " قلت لجابر ما تشقح الخ " فظهر أن السائل عن ذلك هو سعيد، والذي فسره هو جابر، وقد أخرج مسلم الحديث من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي الوليد عن جابر مطولا وفيه " وأن يشتري النخل حتى يشقه، والإشقاء أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء " وفي آخره " فقال زيد فقلت لعطاء أسمعت جابرا يذكر هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم " وهو يحتمل أن يكون مراده بقوله هذا جميع الحديث فيدخل فيه التفسير، ويحتمل أن يكون مراده أصل الحديث لا التفسير فيكون التفسير من كلام الراوي، وقد ظهر من رواية ابن مهدي أنه جابر والله أعلم. ومما يقوي كونه مرفوعا وقوع ذلك في حديث أنس أيضا، وفيه دليل على أن المراد ببدو الصلاح قدر زائد على ظهور الثمرة، وسبب النهي عن ذلك خوف الغرر لكثرة الجوائح فيها، وقد بين ذلك في حديث أنس الآتي في الباب بعده " فإذا احمرت وأكل منها أمنت العاهة علها " أي غالبا. قوله: (تحمار وتصفار) قال الخطابي لم يرد بذلك اللون الخالص من الصفرة والحمرة، وإنما أراد حمرة أو صفرة بكمودة فلذلك قال تحمار وتصفار قال: ولو أراد اللون الخالص لقال تحمر وتصفر. وقال ابن التين: التشقيح تغير لونها إلى الصفرة والحمرة، فأراد بقوله تحمار وتصفار ظهور أوائل الحمرة والصفرة قبل أن تشبع، قال: وإنما يقال تفعال في اللون الغير المتمكن إذا كان يتلون، وأنكر هذا بعض أهل اللغة وقال: لا فرق بين تحمر وتصفر وتحمار وتصفار، ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في احمرارها واصفرارها، كما تقرر أن الزيادة تدل على التكثير والمبالغة. (تكميل) : قال الداودي الشارح: قول زيد بن ثابت كالمشورة يشير بها عليهم تأويل من بعض نقلة الحديث، وعلى تقدير أن يكون من قول زيد بن ثابت فلعل ذلك كان في أول الأمر ثم ورد الجزم بالنهي كما بينه حديث ابن عمر وغيره. قلت: وكان البخاري استشعر ذلك فرتب أحاديث الباب بحسب ذلك، فأفاد حديث زيد بن ثابت سبب النهي، وحديث ابن عمر التصريح بالنهي، وحديث أنس وجابر بيان الغاية التي ينتهي إليها النهي. *3* الشرح: قوله: (باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها) هذه الترجمة معقودة لبيان حكم بيع الأصول، والتي قبلها لحكم بيع الثمار. الحديث: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَعَنْ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ قِيلَ وَمَا يَزْهُو قَالَ يَحْمَارُّ أَوْ يَصْفَارُّ الشرح: قوله: (معلى بن منصور) هو من كبار شيوخ البخاري. وإنما روى عنه في الجامع بواسطة، ووقع في نسخة الصغاني في آخر الباب " قال أبو عبد الله: كتبت أنا عن معلى بن منصور، إلا أني لم أكتب عنه هذا الحديث. قوله: (حتى يزهو) يقال زها النخل يزهو إذا ظهرت ثمرته، وسيأتي في الباب الذي بعده بلفظ " حتى تزهى " وهو من أزهى يزهى إذا احمر أو اصفر. قوله: (قيل وما يزهو) لم يسم السائل عن ذلك في هذه الرواية ولا المسؤول، وقد رواه إسماعيل ابن جعفر كما سيأتي بعد خمسة أبواب عن حميد وفيه " قلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: تحمر " وفي رواية مسلم من هذا الوجه " فقلت لأنس " وكذلك رواه أحمد عن يحيى القطان عن حميد لكن قال " قيل لأنس ما تزهو". *3* الشرح: قوله: (باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ثم أصابته عاهة فهو من البائع) جنح البخاري في هذه الترجمة إلى صحة البيع وإن لم يبد صلاحه، لكنه جعله قبل الصلاح من ضمان البائع، ومقتضاه أنه إذا لم يفسد فالبيع صحيح وهو في ذلك متابع للزهري كما أورده عنه في آخر الباب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ فَقِيلَ لَهُ وَمَا تُزْهِي قَالَ حَتَّى تَحْمَرَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ قَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا ابْتَاعَ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ ثُمَّ أَصَابَتْهُ عَاهَةٌ كَانَ مَا أَصَابَهُ عَلَى رَبِّهِ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تَتَبَايَعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَلَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ بِالتَّمْرِ الشرح: قوله: (حتى تزهى) قال الخطابي. هذه الرواية هي الصواب فلا يقال في النخل تزهو إنما يقال تزهى لا غير وأثبت غيره ما نفاه فقال: زها إذا طال واكتمل، وأزهى إذا احمر واصفر. قوله: (فقيل وما تزهى) لم يسم السائل في هذه الرواية ولا المسؤول أيضا، وقد رواه النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بلفظ " قيل يا رسول الله وما تزهى؟ قال تحمر " وهكذا أخرجه الطحاوي من طريق يحيى بن أيوب وأبو عوانة من طريق سليمان بن بلال كلاهما عن حميد وظاهره الرفع ورواه إسماعيل بن جعفر وغيره عن حميد موقوفا على أنس كما تقدم في الباب الذي قبله. قوله: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت إذا منع الله الثمرة الحديث) هكذا صرح مالك برفع هذه الجملة، وتابعه محمد بن عباد عن الدراوردي عن حميد مقتصرا على هذه الجملة الأخيرة، وجزم الدار قطني وغير واحد من الحفاظ بأنه أخطأ فيه، وبذلك جزم ابن أبي حاتم في " العلل " عن أبيه وأبي زرعة، والخطأ في رواية عبد العزيز من محمد بن عباد، فقد رواه إبراهيم بن حمزة عن الدراوردي كرواية إسماعيل ابن جعفر الآتي ذكرها. ورواه معتمر بن سليمان وبشر بن المفضل عن حميد فقال فيه " قال أفرأيت الخ " قال: فلا أدري أنس قال " بم يستحل " أو حدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه الخطيب في " المدرج " ورواه إسماعيل بن جعفر عن حميد فعطفه على كلام أنس في تفسير قوله " تزهى " وظاهره الوقف وأخرجه الجوزقي من طريق يزيد بن هارون والخطيب من طريق أبي خالد الأحمر كلاهما عن حميد بلفظ " قال أنس أرأيت إن منع الله الثمرة " الحديث، ورواه ابن المبارك وهشيم كما تقدم آنفا عن حميد فلم يذكر هذا القدر المختلف فيه، وتابعهما جماعة من أصحاب حميد عنه على ذلك. قلت: وليس في جميع ما تقدم ما يمنع أن يكون التفسير مرفوعا، لأن مع الذي رفعه زيادة على ما عند الذي وقفه، وليس في رواية الذي وقفه ما ينفي قول من رفعه. وقد روى مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر ما يقوي رواية الرفع في حديث أنس ولفظه " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته عاهة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " واستدل بهذا على وضع الجوائح في الثمر يشتري بعد بدو صلاحه ثم تصيبه جائحة، فقال مالك: يضع عنه الثلث. وقال أحمد وأبو عبيد يضع الجميع. وقال الشافعي والليث والكوفيون: لا يرجع على البائع بشيء وقالوا إنما ورد وضع الجائحة فيما إذا بيعت الثمرة قبل بدو صلاحها بغير شرط القطع فيحمل مطلق الحديث في رواية جابر على ما قيد به في حديث أنس والله أعلم. واستدل الطحاوي بحديث أبي سعيد " أصيب رجل في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه. فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " أخرجه مسلم وأصحاب السنن، قال: فلما لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار وفيهم باعتها ولم يؤخذ الثمن منهم دل على أن الأمر بوضع الجوائح ليس على عمومه والله أعلم. وقوله "بم يستحل أحدكم مال أخيه؟ " أي لو تلف الثمر لانتفى في مقابلته العوض فكيف يأكله بغير عوض؟ وفيه إجراء الحكم على الغالب، لأن تطرق التلف إلى ما بدا صلاحه ممكن، وعدم التطرق إلى ما لم يبد صلاحه ممكن، فأنيط الحكم بالغالب في الحالتين. قوله: (وقال الليث حدثني يونس الخ) هذا التعليق وصله الذهلي في " الزهريات " وقد تقدم الحديث عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل بهذا وأتم منه، والغرض منه هنا ذكر استنباط الزهري للحكم المترجم به من الحديث. *3* الشرح: قوله: (باب شراء الطعام إلى أجل) ذكر فيه حديث عائشة في شرائه صلى الله عليه وسلم طعاما إلى أجل، وسيأتي الكلام عليه مستوفي في الرهن إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه) أي ما يصنع ليسلم من الربا. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ فَجَاءَهُ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَفْعَلْ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا الشرح: قوله: (عن عبد المجيد) بميم مفتوحة بعدها جيم، ومن قاله بالمهملة ثم الميم فقد صحف، وسيأتي ذكر ذلك في الوكالة. قوله: (عن عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن) زاد في الوكالة من هذا ا الوجه " ابن عوف". قوله: (عن سعيد بن المسيب) في رواية سليمان بن بلال عن عبد المجيد " أنه سمع سعيد بن المسيب " أخرجه المصنف في الاعتصام. قوله: (عن أبي سعيد وعن أبي هريرة) في رواية سليمان " أن أبا سعيد وأبا هريرة حدثاه " قال ابن عبد البر: ذكر أبي هريرة لا يوجد في هذا الحديث إلا لعبد المجيد، وقد رواه قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد وحده، وكذلك رواه جماعة من أصحاب أبي سعيد عنه. قلت: رواية قتادة أخرجها النسائي وابن حبان من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه، ولكن سياقه مغاير لسياق قصة عبد المجيد، وسياق قتادة يشبه سياق عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد كما سيأتي الإشارة إليه في الوكالة. قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر) في رواية سليمان المذكورة " بعث أخا بني عدي من الأنصار إلى خيبر فأمره عليها " وأخرجه أبو عوانة والدار قطني من طريق الدراوردي عن عبد المجيد فسماه سواد بن غزية، وهو بفتح السين المهملة وتخفيف الواو وفي آخره دال مهملة، وغزية بغين معجمة وزاي وتحتانية ثقيلة بوزن عطية وسيأتي ذكر ذلك في المغازي في غزوة خيبر. قوله: (بتمر جنيب) بجيم ونون وتحتانية وموحدة وزن عظيم، قال مالك: هو الكبيس. وقال الطحاوي: هو الطيب وقيل الصلب وقيل الذي أخرج منه حشفه ورديئه. وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره بخلاف الجمع. قوله: (بالصاعين) زاد في رواية سليمان " من الجمع " وهو بفتح الجيم وسكون الميم التمر المختلط. قوله: (بالثلاث) كذا للأكثر، وللقابسي بالثلاثة، وكلاهما جائز لأن الصاع يذكر ويؤنث. قوله: (لا تفعل) زاد سليمان " ولكن مثلا بمثل " أي بع المثل بالمثل وزاد في آخره " وكذلك الميزان " وكذا وقع ذكر الميزان في الطريق التي في الوكالة أي في بيع ما يوزن من المقتات بمثله، قال ابن عبد البر: كل من روي عن عبد المجيد هذا الحديث ذكر فيه الميزان سوى مالك. قلت: وفي هذا الحصر نظر لما في الوكالة، وهو أمر مجمع عليه لا خلاف بين أهل العلم فيه كل يقول على أصله: إن كل ما دخله الربا من جهة التفاضل فالكيل والوزن فيه واحد، ولكن ما كان أصله الكيل لا يباع إلا كيلا وكذا الوزن، ثم ما كان أصله الوزن لا يصح أن يباع بالكيل، بخلاف ما كان أصله الكيل فإن بعضهم يجيز فيه الوزن ويقول إن المماثلة تدرك بالوزن في كل شيء، قال: وأجمعوا على أن التمر بالتمر لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل، وسواء فيه الطيب والدون، وأنه كله على اختلاف أنواعه جنس واحد. قال: وأما سكوت من سكت من الرواة عن فسخ البيع المذكور فلا يدل على عدم الوقوع إما ذهولا وإما اكتفاء بأن ذلك معلوم، وقد ورد الفسخ من طريق أخرى، كأنه يشير إلى ما أخرجه مسلم من طريق أبي نضرة عن أبي سعيد نحو هذه القصة وفيه " فقال هذا الربا فردوه " قال: ويحتمل تعدد القصة وأن القصة التي لم يقع فيها الرد كانت قبل تحريم ربا الفضل والله أعلم. وفي الحديث قيام عذر من لا يعلم التحريم حتى يعلمه، وفيه جواز الرفق بالنفس وترك الحمل على النفس لاختيار أكل الطيب على الرديء خلافا لمن منع ذلك من المتزهدين. واستدل به على جواز بيع العينة وهو أن يبيع السلعة من رجل بنقد ثم يشتريها منه بأقل من الثمن لأنه لم يخص بقوله " ثم اشتر بالدراهم جنيبا " غير الذي باع له الجمع، وتعقب بأنه مطلق والمطلق لا يشمل ولكن يشيع فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به فيما عداها، ولا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باعه تلك السلعة بعينها. وقيل إن وجه الاستدلال به لذلك من جهة ترك الاستفصال، ولا يخفى ما فيه. وقال القرطبي: استدل بهذا الحديث من لم يقل بسد الذرائع، لأن بعض صور هذا البيع يؤدي إلى بيع التمر بالتمر متفاضلا ويكون الثمن لغزا، قال: ولا حجة في هذا الحديث لأنه لم ينص على جواز شراء التمر الثاني ممن باعه التمر الأول، ولا يتناوله ظاهر السياق بعمومه بل بإطلاقه والمطلق يحتمل التقييد إجمالا فوجب الاستفسار، وإذا كان كذلك فتقييده بأدنى دليل كاف، وقد دل الدليل على سد الذرائع فلتكن هذه الصورة ممنوعة. واستدل بعضهم على الجواز بما أخرجه سعيد بن منصور من طريق ابن سيرين " أن عمر خطب فقال: إن الدرهم بالدرهم سواء بسواء يدا بيد، فقال له ابن عوف: فنعطي الجنيب ونأخذ غيره؟ قال: لا، ولكن ابتع بهذا عرضا فإذا قبضته وكان له فيه نية فاهضم ما شئت وخذ أي نقد شئت". واستدل أيضا بالاتفاق على أن من باع السلعة التي اشتراها ممن اشتراها منه بعد مدة فالبيع صحيح فلا فرق بين التعجيل في ذلك والتأجيل، فدل على أن المعتبر في ذلك وجود الشرط في أصل العقد وعدمه؟ فإن تشارطا على ذلك في نفس العقد فهو باطل، أو قبله ثم وقع العقد بغير شرط فهو صحيح، ولا يخفى الورع. وقال بعضهم: ولا يضر إرادة الشراء إذا كان بغير شرط، وهو كمن أراد أن يزني بامرأة ثم عدل عن ذلك فخطبها وتزوجها فإنه عدل عن الحرام إلى الحلال بكلمة الله التي أباحها، وكذلك البيع والله أعلم. وفي الحديث جواز اختيار طيب الطعام، وجواز الوكالة في البيع وغيره. وفيه أن البيوع الفاسدة ترد، وفيه حجة على من قال إن بيع الربا جائز بأصله من حيث أنه بيع، ممنوع بوصفه من حيث أنه ربا، فعلى هذا يسقط الربا ويصح البيع قاله القرطبي، قال: ووجه الرد أنه لو كان كذلك لما رد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصفقة، ولأمره برد الزيادة على الصاع. *3* الشرح: قوله: (باب من باع نخلا قد أبرت أو أرضا مزروعة أو بإجارة) أي أخذ شيئا مما ذكر بإجارة. والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث والجمع نخيل، وقوله أبرت بضم الهمزة وكسر الموحدة مخففا على المشهور ومشددا والراء مفتوحة يقال أبرت النخل آبره أبرا بوزن أكلت الشيء آكله أكلا، ويقال أبرته بالتشديد أؤبرة تأبيرا، بوزن علمته أعلمه تعليما والتأبير التشقيق والتلقيح ومعناه شق طلع النخلة الأنثى ليذر فيه شيء من طلع النخلة الذكر، والحكم مستمر بمجرد التشقيق ولو لم يضع فيه شيئا. وروى مسلم من حديث طلحة قال " مررت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رءوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قالوا: يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح"؛ الحديث. الحديث: قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ و قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُخْبِرُ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ لَمْ يُذْكَرْ الثَّمَرُ فَالثَّمَرُ لِلَّذِي أَبَّرَهَا وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحَرْثُ سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَ الشرح: قوله: (وقال لي إبراهيم) يعني ابن وموسى الرازي، وهشام شيخه هو ابن يوسف الصنعاني. قوله: (أيما نخل) هكذا رواه ابن جريج عن نافع موقوفا، قال البيهقي: ونافع يروي حديث النخل عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث العبد عن ابن عمر عن عمر موقوفا. قلت: وقد أسند المؤلف حديث العبد مرفوعا كما سيأتي التنبيه عليه في كتاب الشرب، ونذكر هناك إن شاء الله تعالى ما وقع لصاحب " العمدة " وشارحيها من الوهم فيه، وحديث الحارث لم يروه غير ابن جريج، والرواية الموصولة ذكرها مالك والليث كما تراه في هذا الباب وفي الباب الذي يلي الباب الذي بعده، ووصل مالك والليث وغيرهما عن نافع عن ابن عمر قصة النخل دون غيرها. واختلف على نافع وسالم في رفع ما عدا النخل: فرواه الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا في قصة النخل والعبد معا هكذا أخرجه الحفاظ عن الزهري، وخالفهم سفيان بن حسين فزاد فيه ابن عمر عن عمر مرفوعا لجميع الأحاديث أخرجه النسائي، وروى مالك والليث وأيوب وعبيد الله بن عمر وغيرهم عن نافع عن ابن عمر قصة النخل، وعن ابن عمر عن عمر قصة العبد موقوفة، كذلك أخرجه أبو داود من طريق مالك بالإسنادين معا، وسيأتي في الشرب من طريق مالك في قصة العبد موقوفة. وجزم مسلم والنسائي والدار قطني بترجيح رواية نافع المفصلة على رواية سالم، ومال على بن المديني والبخاري وابن عبد البر إلى ترجيح رواية سالم، وروى عن نافع القصتين أخرجه النسائي من طريق عبد ربه بن سعيد عنه وهو وهم، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع قال: ما هو إلا عن عمر شأن العبد؛ وهذا لا يدفع قول من صحح الطريقين وجوز أن يكون الحديث عند نافع عن ابن عمر على الوجهين. قوله: (وكذلك العبد والحرث) يشير بالعبد إلى حديث " من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع " وصورة تشبيهه بالنخل من جهة الزوائد في كل منهما، وأما الحرث فقال القرطبي: أبار كل شيء بحسب ما جرت العادة أنه إذا فعل فيه نبتت الثمرة، ثمرته وانعقدت فيه، ثم قد يعبر به عن ظهور الثمرة وعن انعقادها وإن لم يفعل فها شيء. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ الشرح: قوله: (من باع نخلا قد أبرت) في رواية نافع الآتية بعد يسير " أيما رجل أبر نخلا ثم باع أصلها الخ " وقد استدل بمنطوقه على أن من باع نخلا وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع، وبمفهومه على أنها إذا كانت غير موبرة أنها تدخل في البيع وتكون للمشتري وبذلك قال جمهور العلماء، وخالفهم الأوزاعي وأبو حنيفة فقالا: تكون للبائع قبل التأبير وبعده، وعكس ابن أبي ليلى فقال: تكون للمشتري مطلقا. وهذا كله عند إطلاق بيع النخل من غير تعرض للثمرة، فإن شرطها المشتري بأن قال اشتريت النخل بثمرتها كانت للمشتري، وإن شرطها البائع لنفسه قبل التأبير كانت له. وخالف مالك فقال: لا يجوز شرطها للبائع. فالحاصل أنه يستفاد من منطوقه حكمان ومن مفهومه حكمان أحدهما بمفهوم الشرط والآخر بمفهوم الاستثناء، قال القرطبي: القول بدليل الخطاب يعني بالمفهوم في هذا ظاهر لأنه لو كان حكم غير المؤبرة حكم المؤبرة لكان تقييده بالشرط لغوا لا فائدة فيه. (تنبيه) : لا يشترط في التأبير أن يؤبره أحد، بل لو تأبر بنفسه لم يختلف الحكم عند جميع القائلين به. قوله: (إلا أن يشترط المبتاع) المراد بالمبتاع المشترى بقرينة الإشارة إلى البائع بقوله من باع، وقد استدل بهذا الإطلاق على أنه يصح اشتراط بعض الثمرة كما يصح اشتراط جميعها وكأنه قال إلا أن يشترط المبتاع شيئا من ذلك وهذه هي النكتة في حذف المفعول. وانفرد ابن القاسم فقال: لا يجوز له شرط بعضها، واستدل به على أن المؤبر يخالف في الحكم غير المؤبر. وقال الشافعية. لو باع نخلة بعضها مؤبر وبعضها غير مؤبر فالجميع للبائع، وإن باع نخلتين فكذلك يشترط اتحاد الصفقة، فإن أفرد فلكل حكمه. ويشترط كونهما في بستان واحد، فإن تعدد فلكل حكمه. ونص أحمد على أن الذي يؤبر للبائع والذي لا يؤبر للمشتري؛ وجعل المالكية الحكم للأغلب. وفي الحديث جواز التأبير وأن الحكم المذكور مختص بإناث النخل دون ذكوره وأما ذكوره فللبائع نظرا إلى المعنى، ومن الشافعية من أخذ بظاهر التأبير فلم يفرق بين أنثى وذكر، واختلفوا فيما لو باع نخلة وبقيت ثمرتها له ثم خرج طلع آخر من تلك النخلة فقال ابن أبي هريرة: هو للمشتري لأنه ليس للبائع إلا ما وجد دون ما لم يوجد؛ وقال الجمهور: هو للبائع لكونه من ثمرة المؤبرة دون غيرها. ويستفاد من الحديث أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يفسد البيع فلا يدخل في النهي عن بيع وشرط، واستدل الطحاوي بحديث الباب على جواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها؛ واحتج به لمذهبه الذي حكيناه في ذلك. وقد تعقبه البيهقي وغيره بأنه يستدل بالشيء في غير ما ورد فيه حتى إذا جاء ما ورد فيه استدل بغيره عليه كذلك، فيستدل لجواز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بحديث التأبير، ولا يعمل بحديث التأبير، بل لا فرق عنده كما تقدم في البيع قبل التأبير وبعده فإن الثمرة في ذلك للمشتري سواء شرطها البائع لنفسه أو لم يشترطها، والجمع بين حديث التأبير وحديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو الصلاح سهل بأن الثمرة في بيع النخل تابعة للنخل وفي حديث النهي مستقلة، وهذا واضح جدا، والله أعلم بالصواب. *3* الشرح: قوله: (باب بيع الزرع بالطعام كيلا) ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن المزابنة وفيه " وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام " قال ابن بطال: أجمع العلماء على أنه لا يجوز بيع الزرع قبل أن يقطع بالطعام، لأنه بيع مجهول بمعلوم، وأما بيع رطب ذلك بيابسه بعد القطع وإمكان المماثلة فالجمهور لا يجيزون بيع شيء من ذلك بجنسه لا متفاضلا ولا متماثلا. انتهى. وقد تقدم البحث في ذلك قبل أبواب. واحتج الطحاوي لأبي حنيفة في جواز بيع الزرع الرطب بالحب اليابس بأنهم أجمعوا على جواز بيع الرطب بالرطب مثلا بمثل مع أن رطوبة أحدهما ليست كرطوبة الآخر بل تختلف اختلافا متباينا، وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص فهو فاسد، وبأن الرطب بالرطب وإن تفاوت لكنه نقصان يسير فعفي عنه لقلته بخلاف الرطب بالتمر فإن تفاوته تفاوت كثير، والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب بيع النخل بأصله) ذكر فيه حديث ابن عمر في التأبير وقد تقدم البحث فيه قبل بباب، وأورده هنا من رواية الليث عن نافع بلفظ " أيما امرئ أبر نخلا ثم باع أصلها " قال ابن بطال: ذهب الجمهور إلى منع من اشترى النخل وحده أن يشتري ثمره قبل بدو صلاحه في صفقة أخرى، بخلاف ما لو اشتراه تبعا للنخل فيجوز، وروى ابن القاسم عن مالك الجواز مطلقا قال: والأول أولى لعموم النهي عن ذلك. الشرح: قوله: (باب بيع المخاضرة) بالخاء والضاد المعجمتين، وهي مفاعلة من الخضرة، والمراد بيع الثمار والحبوب قبل أن يبدو صلاحها. الحديث: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُخَاضَرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُزَابَنَةِ الشرح: قوله: (حدثنا إسحاق بن وهب) أي العلاف الواسطي، وهو ثقة ليس له ولا لشيخه ولا لشيخ شيخه في البخاري غير هذا الموضع. قوله: (حدثنا عمر بن يونس حدثنا أبي) هو يونس بن القاسم اليمامي من بني حنيفة، وثقه يحيى ابن معين وغيره، وهو قليل الحديث. قوله: (عن المحاقلة) قال أبو عبيد: هو بيع الطعام في سنبله بالبر مأخوذ من الحقل. وقال الليث: الحقل الزرع إذا تشعب من قبل أن يغلظ سوقه، والمنهي عنه بيع الزرع قبل إدراكه، وقيل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وقيل بيع ما في رءوس النخل بالتمر، وعن مالك هو كراء الأرض بالحنطة أو بكيل طعام أو إدام، والمشهور أن المحاقلة كراء الأرض ببعض ما تنبت، وسيأتي البحث فيه في كتاب المزارعة إن شاء الله تعالى. وقد تقدم الكلام على الملامسة والمنابذة في بابه وكذلك المزابنة. زاد الإسماعيلي في روايته " قال يونس بن القاسم. والمخاضرة بيع الثمار قبل أن تطعم وبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك منه". وللطحاوي قال عمر بن يونس: فسر لي أبي في المخاضرة قال " لا يشترى من ثمر النخل حتى يونع: يحمر أو يصفر " وبيع الزرع الأخضر مما يحصد بطنا بعد بطن مما يهتم بمعرفة الحكم فيه، وقد أجازه الحنفية مطلقا ويثبت الخيار إذا اختلف، وعند مالك يجوز إذا بدا صلاحه وللمشترى ما يتجدد منه بعد ذلك حتى ينقطع، ويغتفر الغرر في ذلك للحاجة، وشبهه بجواز كراء خدمة العبد مع أنها تتجدد وتختلف، وبكراء المرضعة مع أن لبنها يتجدد ولا يدري كم يشرب منه الطفل، وعند الشافعية يصح بعد بدو الصلاح مطلقا، وقبله يصح بشرط القطع. ولا يصح بيع الحب في سنبله كالجوز واللوز. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ فَقُلْنَا لِأَنَسٍ مَا زَهْوُهَا قَالَ تَحْمَرُّ وَتَصْفَرُّ أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ الشرح: حديث أنس في النهي عن بيع ثمر النخل حتى يزهو، وقد تقدم البحث فيه قريبا.
|